16 - 08 - 2024

تعا اشرب شاي | طوبى للغرباء

تعا اشرب شاي | طوبى للغرباء

اعتدت منذ أن عرفت طريقى للقراءة والكتابة أن أكتب ما يروقنى ، أن أحلق كما يحلو لى وأن أحط على أى مكان يناسبنى، أن أغازل أن أهاجر، أن أمزح أو أعبس، أن أمدح أو أقدح ... اعتدت الجرأة كما اعتدت أن أهجوها، كتبت كثيرا عن خجلى من خجلى، وكثيرا ما شكوت من قسوتى على قسوتى، أحببت وكرهت، فرحت وحزنت، كان القلم والورق أقرب الأصدقاء إلى قلبى أصارحهم بأدق أسرارى، فماذا سيضيرنى؟

أنا سيدة نفسى ، أنا كاتبتى وقارئتى، ليس هناك ما أضطر أن أخفيه أو أخجل من ذكره، وليست هناك ثمة ضرورة كى أتحرى اللفظ ، فلا يعنينى تطريز الكلمات على ورق مخملى، فكل ما أريده أن أفصح لنفسى عن نفسى.

وعندما عرفت الطريق إلى مواقع التواصل الاجتماعي، تحفظت كثيرا، فهناك من سيكشف سترى وربما يفك شفرة عقلى ويطلع على ما يشغل أو يشعل قلبى، كما كنت أمتنع عن الكتابة خشية أن أغضب أحدا أو أحرج أحدا، وامتنعت أحيانا أخرى خشية أن يغضبنى أو يجرحنى اخرون، ثم تجرأت قليلا، فأنا وسط أهلى و أصدقائى فلا بأس من أن أتخفف من قيودى، فبدأت أكتب على صفحات مختلفة ثم توسعت دائرة أصدقائى ومن هنا بدأت المشكلة، ﻻ أحد يستطيع أن يرضى الجميع، لذا فقد كان على أن أختار حلا من ثلاثة : أن الزم الصمت أو اكتب بكثير من التكلف والتحفظ كى ﻻ أغضب أحدا، أو أظل على عفويتى، فاخترت الأخيرة .

حاولت أن أجمل الكلمات دون أن أجامل ورغم ذلك فقدت أصدقاء كنت أكن لهم كثيرا من المحبة وحزنت رغم أنى كسبت اخرين، ولكن ظل إحترامى لنفسى أهم مكسب كنت أحرص عليه، وعندما كلفنى الصديق مجدى شندى باﻻنضمام إلى جريدة المشهد كنت على وشك أن أسأله عن نوعية الجمهور الذى يقرأ الجريدة وهو ليس عيبا بل إن ذلك من أسس العمل الإعلامى إﻻ أنى اثرت أن أتراجع لأظل كما أنا بعفويتى، بمرحى وحزنى، بخجلى وجرأتى، اخترت أن أغمض عينيوأنا أكتب وأفتحهما وأنتم تقرأون، ورغم أنى لم أجد من الكثيرين إلا الترحاب و التشجيع، إلا أنى لقيت من البعض ما لا أطيق، تغابيت كى لا أحرجهم فاستمروا فى استغبائى، تماديت فى التغابى فإستمرأوا استغبائى، وفجأة شعرت بأننى وحدى، لا أجد من يشبهنى، ليس إحساسا بالتميز لا سمح الله ، وإنما هو إحساس بالغربة.

عندما تغزل أو ترسم أو حتى تخبز، ستسعد بالطبع لوجود من يقبل على بضاعتك ولكن ستظل تبحث عمن يغزل أو يرسم أو يخبز مثلك. لم أشعر بالغربة لأننى وحدى التى تجيد الكتابة، فما أنا إلا تلميذة أحاول أن أتعلم ، فأقوم مرة و أتعثر مرات، ولكن غربتى كانت فى ذلك العالم الواسع الذى اقتحمنى فجأة لأكتشف أننى أكاد أن أكون وحدى فيه، تلك الفتاة (الفقرية) التى ظلت تعشق أشياءها ولا تطلعات لديها لمنصب أو مكان أو شهرة، أريد ان أظل كما أنا فى عالمى بشرط أن لا يشوبه قبح أو ظلم. كنت أعيش حياة هادئة والان أجد نفسى مضطرة أن أبرر للبعض أحيانا حتى بعض التفاهات مثل سبب وجود صورتى الشخصية على أحد المواقع، او تعليق أحدهم على أحد مقالاتى ... أنا لا أحب الحروب ولا أجيد فنونها من دفاع أو هجوم.

الان أريد أن أعود لعالمى الصغير، أريكتى .. قهوتى .. كتبى .. صديقتى المقربة .. قطتى .... إلخ. لن يذهب معى المصفقون للقاء ربى، إنهم أشخاص رائعون يحسنون - لرفعة أخلاقهم - الظن بى ولكن يرعبنى وقع مديحهم على قلبي، فغاية ما أخشاه أن يكتب على قبرى من الخارج عاشت صالحة وماتت مؤمنة، بينما يكتب فى داخله عاشت مرائية وحان الوقت لتسعر بها نار جهنم، ما قيمة ما أعمل، وما الذى استفدته أو استفاده الاخرون منى ؟ هكذا تساءلت ، إن هى إلا "كلمات" كما يقول نزار .

وبينما أنا أنمق الكلمات التى سأودع بها الجميع إيذانا منى بالرحيل ، تذكرت غريبا مثلى، ولكن للأسف لم يخطر ببالى إلا عندما رأيت نعى تلاميذه له، أنا بالطبع لست فى قامته ولن أكون، ولكنى أشبهه وهو يشبه أبى، الذى كان ينتظر بشوق أن يرانى أديبة مرموقة ولكنى خذلته، وشيعت روايتى الوليدة معه إلى قبره، فما كتبتها إلا ليراها .

رأيت بعيني كيف يعيش المرء بعد موته، بل رأيت كيف يحيى الله الموتى بموتة أحدهم، رحل الغريب ولكن بعد أن أوحى إلى أنه ربما يكون بيننا كثير من الغرباء (الفقريين) أمثالى، الذين لا يرومون إلا العيش فى سلام، وأن الغربة ليست بالسوء الذى صورته لى نفسى، فللغريب محل فى القلوب لا يجده كثير ممن يبحثون عن المال أو النفوذ، وأن للكلمة قيمة و أن ما زال هناك من يقدرها، رحم الله الغريب و طوبى للغرباء.